فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في التذكير بها: {لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: يصبر على بلائه ويشكر نعماءه. فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر. وقيل: أراد لكل مؤمن لأن الشكر والصبر عنوان المؤمن. وتقديم الصبار على الشكور لتقدم متعلق الصبر- أعني الإيمان على متعلق الشكر- أعني النعماء- وكون الشكر عاقبة الصبر.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي: يبغونكم إياه: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} أي: المولودين صغارًا: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} أي: يبقونهن في الحياة: {وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} الإشارة إلى فعل آل فرعون.. ونسبته إليه تعالى للخلق أو الإقدار والتمكين. قيل: كون قتل الأبناء، ابتلاء ظاهر. وأما استحياء النساء، وهن البنات أي: استبقاؤهن، فلأنهم كانوا يستخدمونهن ويفرقون بينهن وبين الأزواج، أو لأن بقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل:
ومن أعظم الرزء فيما أرى ** بقاء البنات وموت البنينا

ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإلجاء من ذلك. والبلاء: الابتلاء بالنعمة، وهو بلاء عظيم.
قال الزمخشري: البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعًا. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: من الآية 35]، وقال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

ولذا جوز أن تكون الإشارة إلى جميع ما مرَّ، الشامل للنعمة والنقمة.
لطيفة:
أشار أهل المعاني إلى نكتة مجيء: {وَيُذَبِّحُونَ} هنا بالواو، وفي سورة البقرة: {يُذَبِّحُون} [البقرة: من الآية 49]، وفي الأعراف: {يُقَتِّلُونَ} [الأعراف: من الآية 141]، بدونها. والقصة واحدة- بأنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه-، فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال. وحيث عطف- كما هنا- لم يقصد ذلك. والعذاب، إن كان المراد منه الجنس، فالتذبيح، لكونه أشد أنواعه، عطف عليه عطف جبريل على الملائكة، تنبيهًا على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس. وإن كان المراد به غيره، كاسترقاقهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة، فهما متغايران، والمحل محل العطف. وجوز أيضًا كون العطف هنا للتفسير وكأن التفسير- لكونه أوفى بالمراد وأظهر- بمنزلة المغاير فلذا عطف. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
لما كانت الآيات السابقة مسوقة للرد على من أنكروا أن القرآن منزل من الله أعقب الرد بالتمثيل بالنظير وهو إرسال موسى عليه السلام إلى قومه بمثل ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وبمثل الغاية التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج قومه من الظلمات إلى النور.
وتأكيد الإخبار عن إرسال موسى عليه السلام بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المنكرين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى عليه السلام لأن حالهم في التكذيب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك التنزيل، لأن ما جاز على المِثل يجوز على المماثل، على أن منهم من قال: {ما أنزلَ الله على بشر من شيء}.
والباء في {بآياتنا} للمصاحبة، أي إرسالًا مصاحبًا للآيات الدالة على صدقه في رسالته، كما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم مصاحبًا لآية القرآن الدال على أنه من عند الله، فقد تمّ التنظير وانتهض الدليل على المنكرين.
و{أنْ} تفسيرية، فسر الإرسال بجملة {أخْرِج قومك} إلخ، والإرسال فيه معنى القول فكان حقيقًا بموقع: {أن} التفسيرية.
و{الظلمات} مستعار للشرك والمعاصي، و: {النور} مستعار للإيمان الحق والتقوى، وذلك أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد في مصر بعد وفاة يوسف عليه السلام سَرَى إليهم الشرك واتّبعوا دين القبط، فكانت رسالة موسى عليه السلام لإصلاح اعتقادهم مع دعوة فرعون وقومه للإيمان بالله الواحد، وكانت آيلة إلى إخراج بني إسرائيل من الشرك والفساد وإدخالهم في حظيرة الإيمان والصلاح.
والتذكير: إزالة نسيان شيء.
ويستعمل في تعليم مجهول كانَ شأنُه أن يُعلم.
ولما ضمن التذكير معنى الإنذار والوعظ عُدّي بالباء، أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله.
و{أيام الله} أيام ظهور بطشه وغلبه من عصوا أمره، وتأييده المؤمنين على عدوّهم، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر عزّة الله تعالى.
وشاع إطلاق اسم اليوم مضافًا إلى اسم شخص أو قبيلة على يوم انتصر فيه مسمى المضاف إليه على عدوه، يقال: أيام تميم، أي أيام انتصارهم،: {فأيّام الله} أيام ظهور قدرته وإهلاكه الكافرين به ونصْره أولياءه والمطيعين له.
فالمراد بِ: {أيام الله} هنا الأيام التي أنجى الله فيها بني إسرائيل من أعدائهم ونصرهم وسخر لهم أسباب الفوز والنصر وأغدق عليهم النعم في زمن موسى عليه السلام، فإن ذلك كله مما أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهمُوه، وكله يصح أن يكون تفسيرًا لمضمون الإرسال، لأن إرسال موسى عليه السلام ممتدّ زمنه، وكلما أوحى الله إليه بتذكيرٍ في مدة حياته فهو من مضمون الإرسال الذي جاء به فهو مشمول لتفسير الإرسال.
فقول موسى عليه السلام: {يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [سورة المائدة: 20، 21] هو من التذكير المفسّر به إرسال موسى عليه السلام.
وهو وإن كان واقعًا بعد ابتداء رسالته بأربعين سنة فما هو إلا تذكير صادر في زمن رسالته، وهو من التذكير بأيام نعم الله العظيمة التي أعطاهم، وما كانوا يحصلونها لولا نصر الله إياهم، وعنايتِه بهم ليعلموا أنه رُبّ ضعيففٍ غلب قويًا ونجا بضعفه ما لم ينجُ مثلَه القوي في قوته.
واسم الإشارة في قوله: {إن في ذلك لآيات} عائد إلى ما ذكر من الإخراج والتذكير، فالإخراج من الظلمات بعد توغلهم فيها وانقضاء الأزمنة الطويلة عليها آية من آيات قدرة الله تعالى.
والتذكير بأيام الله يشتمل على آيات قدرة الله وعزته وتأييد مَن أطاعه، وكل ذلك آيات كائنة في الإخراج والتذكير على اختلاف أحواله.
وقد أحاط بمعنى هذا الشمول حرف الظرفية من قوله: {في ذلك} لأن الظرفية تجمع أشياء مختلفة يحتويها الظرف، ولذلك كان لحرف الظرفية هنا موقع بليغ.
ولكون الآيات مختلفة، بعضها آيات موعظة وزجر وبعضها آيات منة وترغيب، جُعلت متعلقة بـ: {كل صبار شكور} إذ الصبر مناسب للزجر لأن التخويف يبعث النفس على تحمل معاكسة هواها خيفة الوقوع في سوء العاقبة، والإنعام يبعث النفس على الشكر، فكان ذكر الصفتين توزيعًا لما أجمله ذكر أيام الله من أيام بؤس وأيام نعيم.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ}
عطف على جملة: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} باعتبار غرض الجملتين، وهو التنظير بسنن ما جاء به الرسل السابقون من إرشاد الأمم وتذكيرها، كما أنزل القرآن لذلك.
{وإذ} ظرف للماضي متعلّق بفعل تقديره: اذكر، دل عليه السياق الذي هو ذكر شواهد التاريخ بأحوال الرسل عليهم السلام مع أممهم.
والمعنى: واذْكر قول موسى لقومه الخ.
وهذا مما قاله موسى لقومه بعد أن أنجاهم الله من استعباد القبط وإهانتهم، فهو من تفاصيل ما فسّر به إرسال موسى عليه السلام وهو من التذكير بأيام الله الذي أمر الله موسى عليه السلام أن يذكّره قومه.
و{إذ أنجاكم} ظرف للنعمة بمعنى الإنام، أي الإنعام الحاصل في وقت إنجائه إياكم من آل فرعون.
وقد تقدم تفسير نظيرها في قوله تعالى: {وإذ أنجيناكم من آل فرعون} في سورة البقرة (49)، وكذا في سورة الأعراف يقتلون.
سوى أن هذه الآية عُطفت فيها جملة {ويذبحون} على جملة: {يسومونكم} وفي آية البقرة والأعراف جعلت جملة: {يذبحون} وجملة: {يقتلون} بدون عطف على أنها بدل اشتمال من جملة: {يسومونكم سوء العذاب}.
فكان مضمون جملة: {وبذبحون} هنا مقصودًا بالعدّ كأنه صنف آخر غير سوء العذاب اهتمامًا بشأنه، فعطفه من عطف الخاص على العامّ.
وعلى كلا النظمين قد حصل الاهتمام بهذا العذاب المخصوص بالذكر، فالقرآنُ حكى مراد كلام موسى عليه السلام من ذكر العذاب الأعم وذكر الأخص للاهتمام به، وهو حاصل على كلا النظمين.
وإنما حكاه القرآن في كل موضع بطريقة تفنّنًا في إعادة القصة بحصول اختلاف في صورة النظم مع الحفاظ على المعنى المحكي، وهو ذكر سوء العذاب مجملًا، وذكر أفظع أنواعه مبيّنًا.
وأما عطف جملة: {ويستحيون نساءكم} في الآيات الثلاث فلأن مضمونها باستقلاله لا يصلح لبيان سوء العذاب، لأن استحياء النساء في ذاته نعمة ولكنه يصير من العذاب عند اقترانه بتذبيح الأبناء، إذ يُعلم أن مقصودهم من استحياء النساء استرقاقهن وإهانتهن فصار الاستحياء بذلك القصد تهيئة لتعذيبهن.
ولذلك سمي جميع ذلك بلاء.
وأصل البلاء: الاختبار.
والبلاء هنا المصيبة بالشرّ، سمي باسم الاختبار لأنه اختبار لِمقدار الصبر، فالبلاء مستعمل في شدة المكروه من تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه على طريقة المجاز المرسل.
وقد شاع إطلاق هذا بصيغة اسم المصدر بحيث يكاد لا يطلق إلاّ على المكروه.
وما ورد منه مستعملًا في الخير فإنما ورد بصيغة الفعل كقوله: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [سورة الأنبياء: 35]، وقوله: {ونبلو أخباركم} [سورة محمد: 31].
وتقدم في نظيرها من سورة البقرة.
وجعل هذا الضر الذي لحقهم واردًا من جانب الله لأن تخلّيه آل فرعون لفعل ذلك وعدم إلطافه ببني إسرائيل يجعله كالوارد من الله وهو جزاء على نبذ بني إسرائيل دينهم الحق الذي أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب عليهم السلام واتّبَاهِهم دين القبط وعبادة آلهتهم.
واختيار وصف الربّ هنا للإيماء إلى أنه أراد به صلاح مستقبلهم وتنبيههم لاجتناب عبادة الأوثان وتحريف الدين كقوله: {وإن عدتم عدنا} [سورة الإسراء: 8].
وهذه الآية تضمنت ما في فقرة (17) من الإصحاح (12). وفقرة (3) من الإصحاح (13) من سفر الخروج. وما في فقرة (13) من الإصحاح (26) من سفر اللاّويين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}
والآيات التي أرسلها الله مع- موسى عليه السلام- والمعجزات التي حدثت معه وبيَّنها وأظهرها لقومه كثيرة، ورسولنا صلى الله عليه وسلم نزل ومعه معجزة واحدة وهي القرآن، أما بقية المعجزات الحسية التي حدثتْ مع رسول الله؛ فهي قد جاءت لتثبيت فؤاد المؤمنين برسالته، ولم يَبْقَ لها أثر من بعد ذلك إلا الذكرى النافعة التي يأتنس بها الصالحون من عباد الله.
وكثرة المعجزات التي جاءت مع موسى عليه السلام تبين أن القوم الذين أُرسل لهم قوم لَجج وجدل، وحين عَدَّد العلماء المعجزات التي جاءت مع موسى وجدها بعضٌ من العلماء تسع آيات؛ ووجدها غيرهم ثلاث عشرة معجزة؛ ووجدها بعضٌ ثالث أربع عشرة.
وفي التحقيق لمعرفة تلك الآيات علينا أن نُفرِّق بين الآيات التي صدرت بالنسبة لفرعون؛ والآيات التي جاءتْ لبني إسرائيل. فالعصا التي انقلبت حيَّة تسعى، واليد التي تُضيء هي لفرعون، وعدَّد القرآن الآيات التي جاءت مع موسى لفرعون بتسع آيات، يقول الحق سبحانه: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ...} [النمل: 12].
ولم يكن موسى يطلب من فرعون أن يؤمن؛ فهو لم يُرْسَل لهدايته؛ ولكنه جاء ليُفحمه وليأخذ بني إسرائيل المُرْسَلُ إليهم، والآيات هي: العصا وَوَضْع اليد في الجيب لتخرج بيضاء، ونَقْص الأنفس والثمرات؛ والطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم، هذه هي الآيات التسع الخاصة بفرعون.